"رأيّ الذكرى" للكاتبه فيروز جوهر
رأيّ الذكرى
منذ سنوات استمعت إلى فتوى تُحرّم الصور وتعليقها وما يتعلّق بها -وكأنها خمر لُعن شاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها
وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها- باستثناء حالة تصوير الطبيعة الخلابة وكل ما لا تدب فيه روح،
وكأن الحرمانية تكمن في أنها أرواح!
ويُحكم عليك حُكمًا قاطعًا بأن تتخلى عن موهبتك التي تستنشق بها حياة الدُنيا
وأنه لطريق إلى جهنم إن استغللت موهبتك في تصوير ذوات الأرواح، وطريق للنعيم إن اخترت تصوير كل ما لا تدب فيه روح
كي يتأملها البشر ويزداد إيمانهم بقدرة الله وعظمة إبداعه.
وكنت دائمًا ما أهمش كل ما يُقال عن تلك الفتوى -ولو تطرقت للحديث عن أسباب تهميشي لها لكتبت مقالًا آخر-
وذات يوم ساقني الحنين لرؤية الماضي، وأول ما رأيت عهد الطفولة، كانت تُلتقط صور تلك المرحلة بالكاميرا
فتُطبع. فما عهدت طفولتنا الهواتف المحمولة ذوات الكاميرا الخلفية والأمامية وما إلى ذلك. فنحن الجيل الذي غُرس
في بساطة الحياة ونبت في ذروة تطورها بما لا يمس بما شب عليه -ولو تطرقت أيضًا لمأساتنا تلك ومآسينا كجيل عامة
لكتبت مقالات أخرى-
فلنعد للب الحديث
تلك صورة تُظهر جدي -رحمه الله- مبتسمًا مبتهجًا ونحن -أحفاده- حوله سعداء.
ذلك التجمع الذي ظل ينقص واحدًا تلو الآخر بمرور السنوات؛ مَن هو متعذرٌ بمشاغل الدنيا أو متحججٌ عن قطع رحمه
بـ "سُنة الحياة" وجدي الذي ذهب -بلا عودة- من تلك الدنيا.
صورة يذوب لها القلب من فرط الحزن على مرور تلك اللحظة دون عودة، ممتزج بالحنين الناهش للقلب......
تلك صورة أخرى تجمع بيني وصديقتي -رحمها الله- في آخر احتفال بعيد ميلاد لها في هذه الدنيا، وأتذكر
كم كانت خير الأصدقاء، وكم كان ألم فقدها أكبر من أن يوصف.
وتلك أخرى تجمعني بفتاة كنت أصنفها صديقة، وشعور الخذلان الممتزج بالشك في مصداقية تلك اللحظات التي
قررنا توثيقها لامتلائها بالسعادة الخادعة!
وتلك أخرى تجمعني بزملاء المدرسة، وأتذكر كم كانت تلك الأوقات سعيدة، متذكرة مروري بجانب المدرسة
وكأنما أمر بجانب ماضيّ. وقول محمود درويش بأن: "و إن أعادوا لنا المقاهي، فمن يعيد لنا الرفاق؟"
ومتذكرة قول نبيل عبدالحميد: "و أفتكر لو شُفت جامعة، ولا جنب القهوة أعدي؛ إن إحنا كنا سبعة، وإني في الآخر لوحدي."
وكثير من الذكريات. كلما كانت الذكرى أكثر سعادة كان الألم أشد، وكل ذكرى وصورة تحمل شعورًا خاصًا بها.
ورغم ذلك الاختلاف، فأنهم - جميعًا- اتفقوا في بعث شعور مشترك. ألا وهو
الحنين المُفرط المُذيب للقلب.........
وتذكرت حينها تلك الفتوى عن الصور التي سمعتها منذ سنوات، وفي السنوات الفاصلة -بيني الآن وبين وقت سماعي
لتلك الفتوى-
ما وجدت أمرًا من الدين إلا وكان موافقًا للعقل، مُقنعًا له، حاميًا للنفس ولعواطفها.
تذكرت امتعاضي في صغري حين كانت تنهرني أمي لنفخي في الطعام؛ آمرة إياي بأن أتركه ليبرد أو أبرده بتهويتي له بيدي
وتبريرها ذلك بأنه "حرام"
كنت لا أفهم ما الحرمانية في فعلين يحققان نفس النتيجة؟ ولماذا يُحرم؟
حتى علمت بأن هواء الزفير يحتوي على بكتيريا إن لامست سطحًا ساخنًا تسببت في الإصابة بالأمراض السرطانية المختلفة،
وكثير من التفسيرات العلمية
مما يثبت دقة الدين في تعاليمه.
و أنه إن كان قد حرّم الصور، فما ذلك إلا للحفاظ على عواطف الإنسان من مرارة الحنين والاشتياق.
"هل فهمت الآن الحكمة من كون عمر الإنسان لا يتجاوز الثمانين على الأغلب؟
لو عاش الإنسان مائتي عام لجن من فرط الحنين إلى أشياء لم يعد لها مكان."
"لو كان بوسع المرء أن يغرس خنجرًا في مخه ليقتطع الجزء الذي يحمل ذكريات معينة لغدت الحياة جنة. "
فما ظنك بشعور رأيّ الذكرى
التعليقات على الموضوع